فصل: من فوائد الزمخشري في الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} الشفاعة مأخوذة من الشَّفع وهما الاثنان؛ تقول: كان وَتْرًا فشفَعتُه شَفْعًا؛ والشُّفْعة منه؛ لأنك تضم ملك شريكك إلى ملكك.
والشفيع: صاحب الشُّفْعة وصاحب الشفاعة.
وناقة شافع: إذا اجتمع لها حَمْل وولد يتبعها؛ تقول منه: شَفعتِ الناقة شَفْعًا.
وناقة شَفُوع وهي التي تجمع بين مَحْلَبين في حَلْبة واحدة.
واستشفعته إلى فلان: سألته أن يشفع لي إليه.
وتشفّعت إليه في فلان فَشفّعني فيه؛ فالشفاعة إذًا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك؛ فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفَّع، وإيصال منفعته للمشفوع.
الرابعة: مذهب أهل الحق أن الشفاعة حق؛ وأنكرها المعتزلة وخلدوا المؤمنين من المذنبين الذين دخلوا النار في العذاب.
والأخبار متظاهرة بأن من كان من العصاة المذنبين الموحّدين من أمم النبيين هم الذين تنالهم شفاعة الشافعين من الملائكة والنبيّين والشهداء والصالحين.
وقد تمسّك القاضي عليهم في الردّ بشيئين: أحدهما: الأخبار الكثيرة التي تواترت في المعنى.
والثاني: الإجماع من السلف على تلقّي هذه الأخبار بالقبول؛ ولم يَبْدُ من أحد منهم في عصر من الأعصار نكير؛ فظهور روايتها وإطباقهم على صحتها وقبولهم لها دليل قاطع على صحة عقيدة أهل الحق وفساد دين المعتزلة.
فإن قالوا: قد وردت نصوص من الكتاب بما يوجب ردّ هذه الأخبار؛ مثل قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18].
قالوا: وأصحاب الكبائر ظالمون.
وقال: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة} [البقرة: 48].
قلنا: ليست هذه الآيات عامة في كل ظالم، والعموم لا صيغة له؛ فلا تعمّ هذه الآيات كل مَن يعمل سوءًا وكل نفس، وإنما المراد بها الكافرون دون المؤمنين بدليل الأخبار الواردة في ذلك.
وأيضًا فإن الله تعالى أثبت شفاعةً لأقوام ونفاها عن أقوام؛ فقال في صفة الكافرين: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} [المدثر: 48] وقال: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28] وقال: {وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23].
فعلمنا بهذه الجملة أن الشفاعة إنما تنفع المؤمنين دون الكافرين.
وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى: {واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48] النفسُ الكافرة لا كل نفس.
ونحن وإن قلنا بعموم العذاب لكل ظالم عاص فلا نقول: إنهم مخلَّدون فيها بدليل الأخبار التي رويناها، وبدليل قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقوله: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 12].
فإن قالوا: فقد قال تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28] والفاسق غير مُرْتَضًى.
قلنا: لم يقل لمن لا يرضى، وإنما قال: {لِمَنِ ارتضى} ومن ارتضاه الله للشفاعة هم الموحّدون؛ بدليل قوله: {لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا} [مريم: 87].
وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما عهد الله مع خلقه؟ قال: «أن يؤمنوا ولا يشركوا به شيئًا» وقال المفسرون: إلا من قال لا إله إلا الله.
فإن قالوا: المرتَضَى هو التائب الذي اتخذ عند الله عهدًا بالإنابة إليه، بدليل أن الملائكة استغفروا لهم؛ وقال: {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7].
وكذلك شفاعة الأنبياء عليهم السلام إنما هي لأهل التوبة دون أهل الكبائر.
قلنا: عندكم يجب على الله تعالى قبول التوبة، فإذا قبل الله توبة المذنب فلا يحتاج إلى الشفاعة ولا إلى الاستغفار.
وأجمع أهل التفسير على أن المراد بقوله: {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ} [غافر: 7] أي من الشرك {واتبعوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7] أي سبيل المؤمنين.
سألوا الله تعالى أن يغفر لهم ما دون الشرك من ذنوبهم؛ كما قال تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48 و116].
فإن قالوا: جميع الأمة يرغبون في شفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلو كانت لأهل الكبائر خاصّة بطل سؤالهم.
قلنا: إنما يطلب كل مسلم شفاعة الرسول ويرغب إلى اللَّه في أن تناله؛ لاعتقاده أنه غير سالم من الذنوب ولا قائم لله سبحانه بكل ما افترض عليه؛ بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة؛ وقال صلى الله عليه وسلم: «لا ينجو أحد إلا برحمة الله تعالى فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟ فقال: ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله برحمته». اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} الآية.
ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقًا يوم القيامة. ولكنه بين في مواضع آخر أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار، والشفاعة لغيرهم، بدون إذن رب السموات والأرض.
أما الشفاعة للمؤمنين بإذنه فهي ثابتة بالكتاب، والسنة، والإجماع. فنص على عدم الشفاعة للكفار بقوله: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28]، وقد قال: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} [الزمر: 7]، وقال تعالى عنهم مقررًا له: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ} [الشعراء: 100]، وقال: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} [المدثر: 48]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في الشفاعة بدون إذنه: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال: {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَاءُ ويرضى} [النجم: 26]. وقال: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] إلى غير ذلك من الآيات وادعاء شفعاء عند الله للكفار أو بغير إذنه، من أنواع الكفر به جل وعلا، كما صرح بذلك في قوله: {وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].

.تنبيه: الشفاعة للكفار:

هذا الذي قررنا من أن الشفاعة للكفار مستحيلة شرعًا مطلقًا، يستثنى منه شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في نقله من محلٍّ من النار إلى محل آخر منها، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح، فهذه الصورة التي ذكرنا من تخصيص الكتاب بالسنة. اهـ.

.قال ابن كثير:

{وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}.
لما ذكرهم الله تعالى بنعمه أولا عطف على ذلك التحذير من حُلُول نقمه بهم يوم القيامة فقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا} يعني: يوم القيامة {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي: لا يغني أحد عن أحد كما قال: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، وقال: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33]، فهذه أبلغ المقامات: أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئا، وقوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} يعني عن الكافرين، كما قال: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، وكما قال عن أهل النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 110، 111]، وقوله: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي: لا يقبل منها فداء، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 91] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 36] وقال تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام: 70]، وقال: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [الحديد: 15]، فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به، ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه، فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء، ولو بملء الأرض ذهبا، كما قال تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، وقال: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم: 31].
وقال سنيد: حدثني حجاج، حدثني ابن جريج، قال: قال مجاهد: قال ابن عباس: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} قال: بدل، والبدل: الفدية، وقال السدي: أما عدل فيعدلها من العذاب يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} يعني: فداء.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي مالك، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، والربيع بن أنس، نحو ذلك.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه عن علي، رضي الله عنه، في حديث طويل، قال: والصرف والعدل: التطوع والفريضة.
وكذا قال الوليد بن مسلم، عن عثمان بن أبي العاتكة، عن عمير بن هانئ.
وهذا القول غريب هنا، والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية، وقد ورد حديث يقويه، وهو ما قال ابن جرير: حدثني نَجِيح بن إبراهيم حدثنا علي بن حكيم، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عَمْرو بن قيس الملائي، عن رجل من بني أمية- من أهل الشام أحسن عليه الثناء- قال: قيل: يا رسول الله، ما العدل؟ قال: «العدل الفدية».
وقوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي: ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه ولا يقبل منهم فداء. هذا كله من جانب التلطف، ولا لهم ناصر من أنفسهم، ولا من غيرهم، كما قال: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق: 10] أي: إنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فِدْيَة ولا شفاعة، ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ، ولا يجيره منه أحد، كما قال تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88]. وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 25 26]، وقال: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 25، 26]، وقال: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} الآية [الأحقاف: 28].
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} ما لكم اليوم لا تمانعون منا؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم.
قال ابن جرير: وتأويل قوله: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} يعني: أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية، بَطَلت هنالك المحاباة واضمحلت الرَّشى والشفاعات، وارتفع من القوم التعاون والتناصر، وصار الحكم إلى عدل الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها وذلك نظير قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 24- 26]. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة البقرة: الآيات 44- 46]:

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)}.
{أَتَأْمُرُونَ} الهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم. والبرّ سعة الخير والمعروف.
ومنه البر لسعته، ويتناول كل خير. ومنه قولهم: صدقت وبررت. وكان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد صلى اللَّه عليه وسلم ولا يتبعونه. وقيل كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدّقون، وإذا أتوا بصدقات ليفرّقوها خانوا فيها. وعن محمد بن واسع: بلغني أنّ ناسا من أهل الجنة اطلعوا على ناس من أهل النار فقالوا لهم: قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة. قالوا كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} وتتركونها من البر كالمنسيات {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ} تبكيت مثل قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يعنى تتلون التوراة وفيها نعت محمد صلى اللَّه عليه وسلم، أو فيها الوعيد على الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل {أَفَلا تَعْقِلُونَ} توبيخ عظيم بمعنى: أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقول، لأن العقول تأباه وتدفعه. ونحوه {أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}. {وَاسْتَعِينُوا} على حوائجكم إلى اللَّه {بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} أى بالجمع بينهما، وأن تصلوا صابرين على تكاليف الصلاة، محتملين لمشاقها وما يجب فيها- من إخلاص القلب، وحفظ النيات، ودفع الوساوس ومراعاة الآداب، والاحتراس من المكاره مع الخشية والخشوع، واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبار السموات، ليسأل فك الرقاب عن سخطه وعذابه. ومنه قوله تعالى: {وأْمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} أو: واستعينوا على البلايا والنوائب بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها. وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» وعن ابن عباس أنه نعى إليه أخوه قثم وهو في سفر، فاسترجع وتنحى عن الطريق فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشى إلى راحلته وهو يقول: {واستعينوا بالصبر والصلاة} وقيل: الصبر الصوم، لأنه حبس عن المفطرات. ومنه قيل لشهر رمضان: شهر الصبر.
ويجوز أن يراد بالصلاة الدعاء، وأن يستعان على البلايا بالصبر، والالتجاء إلى الدعاء، والابتهال إلى اللَّه تعالى في دفعه وَإِنَّها الضمير للصلاة أو للاستعانة. ويجوز أن يكون لجميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها من قوله: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} إلى {وَاسْتَعِينُوا}. {لَكَبِيرَةٌ} لشاقة ثقيلة من قولك: كبر علىّ هذا الأمر، {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}. فإن قلت: مالها لم تثقل على الخاشعين والخشوع في نفسه مما يثقل؟ قلت: لأنهم يتوقعون ما ادّخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم. ألا ترى إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} أى يتوقعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده، ويطمعون فيه. وفي مصحف عبد اللَّه: يعلمون. ومعناه: يعلمون أن لابد من لقاء الجزاء فيعملون على حسب ذلك. ولذلك فسر {يظنون} بيتيقنون. وأما من لم يوقن بالجزاء ولم يرج الثواب، كانت عليه مشقة خالصة فثقلت عليه كالمنافقين والمراءين بأعمالهم. ومثاله من وعد على بعض الأعمال والصنائع أجرة زائدة على مقدار عمله، فتراه يزاوله برغبة ونشاط وانشراح صدر ومضاحكة لحاضريه، كأنه يستلذ مزاولته بخلاف حال عامل يتسخره بعض الظلمة. ومن ثمّ قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: «و جعلت قرّة عينى في الصلاة» وكان يقول: «يا بلال روّحنا» والخشوع. الإخبات والتطامن. ومنه: الخشعة للرملة المتطامنة. وأما الخضوع فاللين والانقياد. ومنه: خضعت بقولها إذا لينته.